بروفيسور في جامعة القدّيس يوسف ببيروت، رئيسة مؤسِّسة لجمعيّة التميّز للأبحاث المبتكرة والاستدامة والتنمية الاقتصاديّة "AXISSED"
مع بداية عام جديد، لا يعود السؤال في لبنان محصوراً بكيفية الصمود، بل بكيفية البناء. بين التحوّل الرقمي، التنقّل المستدام، والذكاء الاصطناعي؛ وهي عناوين تناولناها في العام المنصرم في «الجمهورية»، يبرز مسار واقعي يمكن أن ينقل البلاد من منطق إدارة الأزمات إلى منطق إيجاد الفرص.
ففي أولى أيام 2026، نقف مرّة أخرى أمام سؤال مصيري يتجاوز الظرف الآني ليطال جوهر النموذج الذي اعتمده لبنان لعقود: هل نبقى في دائرة إدارة الأزمات، أم نملك الجرأة للانتقال إلى صناعة المستقبل؟ إذ أنهكت السنوات الماضية الدولة والمجتمع معاً، وراكمت خسائر مالية واقتصادية واجتماعية عميقة، إلّا أنّها في الوقت عينه كشفت عن حقيقة لا يمكن إنكارها، وهي أنّ لبنان، على رغم من كلّ ما مرّ به، لا يزال يمتلك طاقات بشرية متميّزة، قدرة كامنة على الابتكار، وإمكانات فعلية لإعادة البناء، إذا ما توفّرت الرؤية والحوكمة والإرادة.
لم يعُد كافياً اليوم توصيف الأزمة أو تعداد كلفتها، بل بات المطلوب مقاربة مختلفة، تنطلق من تحويل التحدّيات إلى فرص. فالمشاكل التي نواجهها في النقل، المال، التكنولوجيا، والسلام المستدام، ليست ملفات منفصلة، بل عناصر مترابطة في نموذج اقتصادي واجتماعي يحتاج إلى إعادة نظر شاملة. ومن هذا المنطلق، تبرز مجموعة من المسارات التي تشكّل ملامح لبنان الممكن، لا لبنان المؤجَّل.
أولى هذه المسارات تتجلّى في ملف التنقّل، الذي لم يَعُد مسألة خدماتية فحسب، بل أصبح قضية اقتصادية وبيئية واجتماعية بامتياز. فالاعتماد شبه الكامل على السيارات التقليدية، في ظلّ ارتفاع المعيشة وتراجع القدرة الشرائية، حوّل التنقل إلى عبء يومي على المواطن وعلى الاقتصاد. وعلى رغم من أنّ المبادرات التي ظهرت أخيراً لتشجيع السيارات الكهربائية والهجينة تشكّل خطوة إيجابية، لكنّها تبقى محدودة ما لم تُدرج ضمن سياسة نقل متكاملة. فالتنقّل المستدام لا يقتصر على نوع السيارة، بل يشمل بنية تحتية، شبكات شحن، تشريعات واضحة، وتخطيطاً حضرياً يُخفِّف من الحاجة إلى التنقّل البعيد أصلاً. فالاستثمار في هذا المجال لا يُخفِّف فقط من التلوّث وكلفة الاستيراد، بل يوجِد أيضاً فرص عمل جديدة، ويعزّز قطاعات مرتبطة بالطاقة المتجدّدة والخدمات الذكية.
ولا يمكن فصل هذه التحوّلات عن الواقع الحضَري اليومي، وخصوصاً في بيروت، حيث تحوّل التنقّل إلى أزمة مزمنة تستنزف الوقت والطاقة والإنتاجية. كما أنّ أزمة السَير ليست مشكلة تنظيمية فحسب، بل مرآة لغياب التخطيط الحضري المستدام. فأيّ مقاربة جدّية للمستقبل يجب أن تُعيد الاعتبار للنقل العام، للمساحات المشتركة، وللمدن الصالحة للعيش، حيث يصبح التنقّل حقاً لا عبئاً، والخدمة العامة استثماراً لا كلفة إضافية.
وفي موازاة ذلك، يفرض التحوّل نحو الخدمات المالية الرقمية نفسه كأحد المسارات الواقعية لإعادة تحريك الاقتصاد. ففي ظلّ أزمة مصرفية غير مسبوقة، أصبحت التكنولوجيا المالية أداة أساسية لتسهيل المعاملات، تعزيز الشمول المالي، وربط الأفراد والمؤسسات بدورة اقتصادية أكثر مرونة. فتنظيم المحافظ الإلكترونية وتطوير الأطر الرقابية يُشكّلان خطوة ضرورية لإعادة بناء الثقة، شرط أن يترافق ذلك مع شفافية عالية، حماية فعلية للمستهلك، ومنع تحوّل الرقمنة إلى وسيلة التفاف جديدة على الإصلاح الحقيقي. فالاقتصاد الرقمي ليس بديلاً عن إعادة هيكلة النظام المالي، لكنّه عنصر مساعد يُخفِّف الاحتكاك، ويُعيد جزءاً من السيولة والحركة إلى السوق.
أمّا الذكاء الاصطناعي، الذي قد يبدو لبعضهم بعيداً من أولويّات بلد يرزح تحت أزمات معيشية حادّة، فهو في الواقع أحد مفاتيح المستقبل الاقتصادي. فلبنان، بتاريخه التعليمي وبكفاءاته المنتشرة في الداخل والاغتراب، يمتلك المقوّمات الأساسية للدخول في الاقتصاد المعرفي. السؤال ليس ما إذا كان لبنان قادراً على ذلك، بل كيف، وبأيّ رؤية. فالذكاء الاصطناعي يمكن أن يشكّل رافعة لتحسين التعليم، تطوير الخدمات الصحّية، دعم الزراعة الذكية، وتحديث الإدارة العامة. لكنّ هذا المسار يتطلّب سياسات تعليمية واضحة، استثمارات في التدريب، وربط البحث العلمي بحاجات السوق، بعيداً من المبادرات الموسمية أو الخطابات الفضفاضة.
في الإطار الأوسع، تعيدنا النقاشات الاقتصاديّة العالمية إلى حقيقة أساسية: إنّ النموّ المستدام لا يُفرض من الخارج، بل يُبنى من الداخل، عبر الاستثمار في الإنسان والمعرفة والمؤسسات. وهذه رسالة مباشرة إلى لبنان الذي لطالما شكّل التعليم فيه نقطة قوّة تاريخية. فإعادة الاعتبار للجامعة، وللبحث العلمي، ولربط الابتكار بالاقتصاد، ليست ترفاً فكرياً، بل شرط للنهوض الحقيقي، خصوصاً في بلد غني بالطاقات البشرية.
وسط هذا المشهد المركّب، لا يمكن تجاهل البُعد المعنوي. فالاقتصاد لا ينمو في فراغ، بل في بيئة اجتماعيّة تُشجّع الثقة والاستقرار والتعاون، وتنشر السلام الذي دعا إليه البابا لاوون الرابع عشر في زيارته المباركة، فهي حملت الرسائل الداعية إلى الرجاء والوحدة، مهما بدت رمزية، إذ إنّها تساهم في إعادة ترميم النسيج الاجتماعي، وتذكّر بأنّ أيّ مشروع للنهوض يحتاج إلى حدّ أدنى من التوافق الوطني والإيمان المشترك بإمكانية التغيير.
مع بداية هذا العام، لا يحتاج لبنان إلى وعود كبيرة بقدر ما يحتاج إلى مسار واضح. مسار يربط بين الاستدامة والرقمنة، بين الابتكار والعدالة الاجتماعية، بين الاقتصاد والإنسان. لبنان الجديد لن يُبنى بخطوة واحدة، بل بخيارات متراكمة، واقعية، وشجاعة، تحوّل الأزمات إلى مختبر للتجديد بدل أن تبقى سجناً للتكرار.
ومن هنا، تبرز مجموعة من الحلول المبتكرة التي يمكن أن تُشكّل نقاط انطلاق عملية. بدايةً، إنشاء منصة وطنية للتنقّل المستدام، تجمع بين القطاعَين العام والخاص، وتدمج النقل العام، السيارات الكهربائية، والتطبيقات الذكية في إطار واحد. كذلك، تطوير «محفظة رقمية وطنية» خاضعة لرقابة شفافة، تُسهِّل المعاملات اليومية وتربطها بالخدمات العامة. بالإضافة إلى إدخال الذكاء الاصطناعي والبرمجة التطبيقية بشكل منهجي في التعليم الجامعي والمهني، وربطها بسوق العمل. وأيضاً، إطلاق مختبرات حضَرية في بيروت والمدن الكبرى لاختبار حلول ذكية للنقل والطاقة والخدمات، قبل تعميمها وطنياً. وأخيراً، إشراك المغتربين اللبنانيِّين في مشاريع الابتكار عبر منصات استثمار معرفي، لا مالي فقط.
قد لا يكون العام الجديد سهلاً، لكن قد تكون بدايته مختلفة. بداية ينتقل فيها لبنان من منطق الصمود الصرف، إلى منطق البناء الواعي، فيصبح «السلام» سياسة عامة، الابتكار خياراً وطنياً، والمستقبل مشروعاً مشتركاً لا حلماً مؤجّلاً مع اقتراب الانتخابات النيابية وما تحمله من تغييرات في الاتجاه. فحين يتغيّر الاتجاه، يصبح المستقبل أقرب، السلام أكثر واقعية، ولبنان أقلّ انعزالاً في معركته مع الغد.
في وطنٍ ينام على شفير الانهيار ويصحو على هدير الحروب، لم يبقَ لنا سوى الرجاء. رجاء أن ينهض من أزماته المتراكمة، وأن يحمل العام 2026 بشائر عافيةٍ أقوى. وطنٌ نحلم به قادراً على الوقوف في وجه العواصف، وعلى التجدّد كلما انكسر، من دون أن يعرف يوماً معنى الاستسلام.